عبدالله بن بجاد العتيبي
غالباً ما كانت النزاعات السياسية في التاريخ البشري تكتسي عباءةً دينية وأيديولوجية، الدول والحروب والثورات كلها كانت تجعل الدين ملعباً وسلاحاً في الصراع مع الخصوم، هكذا جرى في التاريخ الغربي منذ اليونان والرومان وحتى القرون الوسطى والحروب الصليبية، وهكذا جرى في التاريخ الإسلامي منذ الدولة الأموية والعباسية والمماليك والعثمانيين وغيرهم.
حتى يوم الناس هذا، لم يزل الدين والأيديولوجيا يتدخلان في السياسة بشكلٍ أو بآخر، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط ومناطقه الساخنة في إسرائيل وفلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان وأخيراً منطقة الخليج، حيث التهديدات الإيرانية المتوالية بضرب مصالح الدول الخليجية في إطار صراعها مع العالم كلّه حول برنامجها النووي وخططها التوسعيّة ومحاولاتها المستميتة لفرض هيمنتها على المنطقة بكاملها، وتستخدم في أهدافها هذه الدين والطائفية كسلاحٍ تعتبره مشروعاً للوصول لغايتها.
إنّ المجال السياسي هو الملعب الصحيح الذي يجب أن يدور الصراع حوله لأنه هو منطلق الخلاف وأساسه بين دول الخليج وإيران، غير أنّ إيران تحاول كثيراً أن تلقي عليه جلباباً طائفياً بادعاءاتها الدائمة أنّها تمثّل مصالح الأقلية الشيعية في الخليج والعالم العربي، وبتقديمها الدعم السياسي وحتى العسكري لبعض المجموعات المتطرفة -التي لا تمثّل شيعة الخليج- وتقبل التحالف مع إيران ضد أوطانها واستقرار هذه الأوطان ورخائها.
هذه مواجهة سياسية ساخنة، وعلى الجبهة الأخرى للنزاع ظهر على السطح وبقوةٍ ومباشرةٍ صراعٌ آخر ولكنّه صراع طائفي مذهبي، يتكئ على الدين وليس على السياسة، ويتحدث باسم "السنّة" و"الشيعة"، أي باسم "الله" كما يراه كل طرفٍ من الأطراف، وذلك على خلفية موقف الشيخ يوسف القرضاوي من عمليات التشييع التي تسعى لها إيران السياسية في أكثر من بلدٍ عربيٍ وإسلاميٍ.
الصراع في الحقيقة صراعٌ سياسيٌ من الدرجة الأولى وليست الطائفية فيه إلاّ وقوداً يذكيه ويزيد بعض النقاط لهذا الطرف أو ذاك، وأحسب أنّنا ينبغي ألاّ ننجرّ خلف التهييج الطائفي ونترك القضية الأساس "السياسة"، فالطائفية فتنةٌ لن نجني من إيقاظها إلا اللعنة، ولنتذكر قول القرضاوي: "إيران بلد مطامع وأحلام الإمبراطورية الفارسية الكسروية القديمة والمسألة مخلوطة بنزعةٍ فارسيةٍ مع نزعةٍ شيعيةٍ مع تعصّب"، فإيران كما سبق لكاتب هذه السطور القول قبل أكثر من عامين هي (أفعى «فارسية» بجلد «مذهبي شيعي»، هكذا تحكي الوقائع على الأرض واللحظة التاريخية لم تعد لحظةً للمجاملات الديبلوماسية الباردة، والعبارات المغلّفة بالجليد).
مع ذلك فإنني أحبّ أن أطمئن المتخوّفين المتخندقين طائفياً أنّ الشيعة لن يتحوّلوا لسنّة، وأنّ السنّة لن يتحوّلوا لشيعةٍ، تلك مسألة عسيرة الحدوث وإن حدثت أحداثٌ فرديةٌ فهي تشكّل الشذوذ الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها، وبناء على هذا فإنّني ضدّ الدعوات التي تحمل شعار "التقريب" بين السنّة والشيعة، فلن يقترب أيٌ منهما لصاحبه، ولن يتزحزح عما يراه عقيدةً إيمانية ضاربة الأطناب في التاريخ، وإن حدث فلن يمثّل هؤلاء المتقاربون سوى أقلية لا أثر لها وسيقدح الأكثرون في شرعيتها وسيتهمونها بالانحراف.
إذاً فالحلّ طائفياً، ليس في التقريب وإنما في التعايش، بمعنى أن يبقى كل طرفٍ على معتقداته وقناعاته، ولكن أن يتعلموا جميعاً العيش تحت مظلّة الوطن المستقلّ ومظلة الدين الواحد، أمّا الحلّ سياسياً، فيكمن في أن تتخذ دول الخليج مواقف صريحة وقويّة تجاه مواقف إيران المعادية، تحذّرها من مغبّة هكذا مواقف، وتؤكّد على تمسّكها بحسن الجوار وأنّها لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي تجاه أي خطرٍ يهدّد استقرارها واستقلالها وسيادتها وذلك –دون شكٍ- حقٌ مشروعٌ لا ينازع فيه أحد.
يتحيّر الكثير من المراقبين حيال سياسة إيران الحالية، ماذا تريد إيران؟ وما الذي تسعى إليه؟ فخطاباتها تتناقض، ومسؤولوها يتعارضون، فمن ساعٍ إلى الفرقاء والتباغض كرئيس الجمهورية أحمدي نجاد، وأضرابه من المسؤولين والسياسيين، وهم الأكثرية، إلى مستشار المرشد الأعلى للشؤون الأمنية حسن روحاني الذي يعترف وبشكلٍ علنيٍ أنّ إيران تخطئ كثيراً باتباعها لسياسة أحمدي نجاد.
أحمدي نجاد "كإنسان" مليء بالأوهام والغيبيات من رأسه حتى أخمص قدميه، وأمثاله من أبناء جماعة "الحجّتيّة" الذين أجبر نجاد من دخل منهم إلى حكومته أن يقسموا الولاء للإمام الثاني عشر، ذلك الإمام الغائب، الذي لم يستطع البويهيون من قبل إخراجه!
جماعة "الحجّتية" التي جاء منها أحمدي نجاد كانت جماعة مهدوية مكرّسةً للإمام الثاني عشر، وتسمية "الحجتية" هي نسبة لإحدى تسميات المهدي المنتظر وهي تسمية "حجة الزمان"، وهي كانت من أكثر الجماعات المعادية للشاه والمؤيدة للثورة وهي لم ترتح أبداً لتلميح الخميني بأنه هو المهدي المنتظر، كما أشار لهذا ولي نصر في كتابه "صحوة الشيعة".
إنّ مثل هؤلاء الغيبيّين لا يحق لهم أن يتحدثوا في السياسة الدولية فضلا عن إدارة نزاعٍ مع الجيران، تمتلك فيه الضفّة المقابلة لهم كل الحقّ، حقوقياً، ودولياً وإنسانياً، وأقرب الأمثلة على هذا ما تجترحه الجمهورية الإسلامية تحت قيادة نجاد من ظلم وحيفٍ وإجراءاتٍ ليس لها ما يسندها من القانون الدولي أو سياسات حسن الجوار، وذلك فيما يتعلّق بالإجراءات الأحادية الجانب في الجزر الإماراتية المحتلّة، إنّ الجزر الإماراتية لا تقل بشكلٍ من الأشكال عن "الضفّة الغربية" و"قطاع غزّة" التي تحتلهما اسرائيل، فإيران وإسرائيل محتلّان غاشمان، بل إن الرزيّة مع إيران أعظم، وذلك أنّ المحتلّ الغاشم هنا يتسمّى باسم الإسلام ويحاول أن يتحدث باسمه في المحافل الدولية، ويتناسى أنّ "طنب الكبرى" و"طنب الصغرى" و"أبو موسى" هي أراضٍ إماراتيةٌ عربيةٌ إسلاميةٌ خالصةٌ، ليس لهم بها أية صلة، ولا لهم عليها أي دليل.
تتناسى السياسة الإيرانية المعتدية أنها لا تمتلك أية صلة بهذه الجزر، وأن العالم كله فضلاً عن العالم الإسلامي أو العربي لا يعترف بحقها عليها، بل هو على العكس مع حق الإمارات العربية المتحدة فيها، وليس ذلك الموقف وليد عاطفةٍ أو نحوها، بل هو وليد الحق والعرف والقانون، الذي تحاول الجمهورية الإيرانية أن تتغاضى عنه باسم الله تارةً وباسم الأئمة تارةً أخرى.
إنّ هذا الصراع مع إيران طويل الذيول في التاريخ الحديث، وكانت الحال فيه سجالاً، واستخدمت فيه كل أنواع الصراع السياسية والطائفية والاقتصادية وغيرها، ولم يجد نفعاً على أيٍ من الطرفين، فحريٌ بعقلاء إيران أن يرتدعوا عن سياسات العداء وأن لا يعيدوها جذعةً، فسوف يخسرون الكثير دون شكٍ، وعليهم أن يستمعوا لنداءات حسن الجوار التي لم يزل المسؤولون الخليجيون يطلقونها، وإلا فليعلموا بأنك لا تجني من الشوك العنب، وأنه على الطاغي تدور الدوائر. وكل عامٍ وأنتم بخير.